[size=56]
الناس مختلفون في طبائعهم وسلوكياتهم ، وكان أحدهم رجلا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، شهما كريم الخصال يحب الخير للناس يأوي الضعيف ويكرم الضيف ويعين على نوائب الحق ، فكم من مكلوم لجأ إليه وكم من جائع قاسمه رغيفه وكم من مظلوم رفع عنه مظلمته ، وإن كان كل ذلك ليس بعجيب ، فكثير من الناس يقاسمونه هذه الصفات وإن قلّوا في هذا الزمان.
ولكن العجيب في أمره أنه في ذات يوم دلف في حماه ذئبة مسعورة كريهة المنظر خبيثة الرائحة ، فلما رأها عرفها فكم أتلفت له من شاه ، وكم أراعت له من راع ٍ ، فتلمس بندقيته مسرعا ليصوبها إلى قلبها وينهي مأساة عان منها طويلا ، لكنه فجأة تمهل ورفع يده عن الزناد لأنه استنكر من حركاتها الخمول ومن نظراتها الإنكسار ، فأخذت الذئبة تتقدم له بخطوات فيها الخور حتى سقطت أمامه ، فمرّر نظره على جسدها فإذا هي مكلومة مثقلة بالجراح فاستشعر هذا الشهم أن الذئبة تستغيث معاني الكرم والشهامة فيه ، وكذلك يشعر من كان صادقا في أخلاقه غير متصنع بها .
فبادر بعلاجها ووضع الدواء على جراحها ، وما إن شفيت حتى ولت هاربة متلبسة بأخلاقها الوضيعة والتي لا تعرف الشكر أو الوفاء .
ثم مضى دهر فإذا بالذئبة تعود من جديد حاملة جروها بين أنيابها ملقية به أمام هذا البدوي فعرف أنها أعادت الكرة بالطلب ، فكان كما عهدته الذئبة !
و كل هذا كان يقع على مرأى ومسمع من طفلة هذا الرجل ، ولسذاجة الطفلة ظنت أن الذئبة تعرف رد الجميل وتحمل وفاء كلب الغنم ، فهي مقاربة لها في الشكل والخلقة ، فجاءت على حين غرة من أبيها تداعب جرو الذئبة لعلها تتخذه صديقا وفيا ، فإذا بالذئبة تدفع جروها بيديها لتشويه الطفلة بمخالبه أو تقطيعها بأنيابه ، فتدارك الرجل ابنته وأخذ يعدو لها مسرعا لا يلوي على شيء حتى ضمها على صدره قائلا لها ( لم يا ابنتي ألا تعرفين أنها ذئبة ؟ ) فقالت له بنيته ( ولكنك أحسنت إليها يا أبي ؟ ) فرد عليها قائلا
أيه... بنيتي الذئبة لا تعرف الوفاء ) .
تتباين ردود أفعال الناس حيال هذه القصة ، فمنهم من يرمي هذا الرجل بالغباء !ومنهم من يتخذ موقفا مغايرا لذلك بأن هذا الرجل وضع الأمور في نصابها فساحة المعركة القائمة على التحدي والبقاء تختلف عن ساحة التعامل مع الجريح المكلوم المستجدي العطف والنجدة ، ولعل البعض الآخر يذهب إلى أن هذا الرجل على حق إلى أن تعدت على إبنته فكان يجب أن يتخذ موقفا حاسما مع عدوه اللدود ، وعلى كل نهاية القصة تركت مفتوحة والمهم فيها هو هل نبذل المعروف لمن لا يحفظه ؟
فكثير من الناس ينتظرون سداد فواتير جمائلهم التي يسدونها تجاه الناس -كما هو حال الطفلة- حتى إذا ما جُحِد جميله صُدِم من واقعه ، فحقر مجتمعه ، وأرسل رسائلا سلبية للناس بأن بذل المعروف غير لائق في هذا الزمان ، وبعدد ما تتكرر هذه المواقف المشينة في المجتمع بقدر ما تهبط أسهم المعروف وترتفع وتيرة اللؤم ، ويصبح المثل المحتذى به في المجتمع قول الشاعر : [/size]